فصل: التنبيه الثاني: الصديقون هم الذين أنعم الله عليهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما العبادة، فعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعين} أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} أي: إنه قد وضع لنا صراطًا سيبينه ويحدده، ويكون مناطُ السعادة في الاستقامة عليه، والشقاء في الانحراف عنه، وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة، ويشبه هذا قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3]. فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد. والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها، وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله، وهيبته، والرجاء لفضله، لا الأعمال المعروفة من فعلٍ وكفّ وحركات اللسان والأعضاء. فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها، والصيام وأيامه، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلًا ما، وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة، ومخ العبادة الفكر والعبرة، وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} تصريح بأن هنالك قومًا تقدموا، وقد شرع الله شرائع لهدايتهم، وصائح يصيح ألا فانظروا في الشؤون العامة التي كانوا عيها واعتبروا بها، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. حيث بين أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار. وفي قوله تعالى: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} تصريح بأن من دون المنعَم عليهم فريقان: فريق ضل عن صراط الله، وفريق جاحده، وعاند من يدعو إليه، فكان محفوفًا بالغضب الإلهي، والخزي في هذه الحياة الدنيا، وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله.
فتبين من مجموع ما تقدم: أن الفاتحة قد اشتملت إجمالًا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلًا. فكان إنزالها أولًا موافقًا لسنة الله تعالى في الإبداع، وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى: أم الكتاب.
الثالثة: مما صح في فضلها من الأخبار: ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال:
كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه. فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي. فقال: «ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]»- ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟» ثم أخذ بيدي، فملا أراد أن نخرج، قلت: يا رسول الله ألم تقل: «لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن». قال:
«{الحمد لله رب العالمين}، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
وروي الإمام أحمد والترمذي بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة، نحوه، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب، وفي آخره:
«والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني».
واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربي وابن الحصار من المالكية، وذلك بين واضح.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سَلِيْم، وإن نَفَرنا غَيْب، فهل منكم واق؟ فقام معها رجل ما كنا نأْبُِنُه برقية. فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنًا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقِي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب. قلنا: لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي، أو نسأل، النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة، ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «وما كان يُدريه أنها رقية؟ اقمسوا واضربوا لي بسهم». وهكذا رواه مسلم وأبو داود، وفي بعض روايات مسلم: أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم- يعني اللديغ، يسمونه بذلك تفاؤلًا.
وروى مسلم والنسائي عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضًا من فوقه، فرفع فقال: «هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك. فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته».
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج- ثلاثا- غير تمام» فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي- وقال مرة: فوض إلي عبدي- فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل».
ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل، {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل}. اهـ.

.من فوائد الشنقيطي في الآيتين:

قال رحمه الله:
وقوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
لم يبين هنا من هؤلاء الذين أنعم عليهم. وبين ذلك في موضع آخر بقوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقًا} [النساء: 69].

.تنبيهان: في الصدق والصديقين:

.التنبيه الأول: صحة إمامة أبي بكر الصديق:

يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم.- أعني الفاتحة- بأن نسأله أن يهدينا صراطهم. فدل ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم.
وذلك في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم.. الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم، وأن إمامته حق.

.التنبيه الثاني: الصديقون هم الذين أنعم الله عليهم:

قد علمت أن الصديقين من الذين أنعم الله عليهم. وقد صرح تعالى بأن مريم ابنة عمران صديقة في قوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَة} [المائدة: 75] الآية- وإذن فهل تدخل مريم في قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] أو لا؟
الجواب: أن دخولها فيهم يتفرع على قاعدة أصولية مختلف فيها معروفة، وهي: هل ما في القرآن العظيم والسنة من الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة الذكور تدخل فيه الإناث أو لا يدخلن فيه إلا بدليل منفصل؟ فذهب قوم إلى أنهن يدخلن في ذلك. وعليه: فمريم داخلة في الآية واحتج أهل هذا القول بأمرين:
الأول: إجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجمع.
والثاني: ورود آيات تدل على دخولهن في الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها، كقوله تعالى في مريم نفسها: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12]، وقوله في امرأة العزيز: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} [يوسف: 29]، وقوله في بلقيس: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43]، وقوله فيما كالجمع المذكر السالم: {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] الآية- فإنه تدخل فيه حواء إجماعًا. وذهب كثير إلى أنهن لا يدخلن في ذلك إلا بدليل منفصل. واستدلوا على ذلك بآيات كقوله: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} إلى قوله: {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] وقوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ} [النور: 30]، ثم قال: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] الآية- فعطفهن عليهم يدل على عدم دخولهن. وأجابوا عن حجة أهل القول الأول بأن تغليب الذكور على الإناث في الجمع ليس محل نزاع.
وإنما النزاع في الذي يتبادر من الجمع المذكر ونحوه عند الإطلاق. وعن الآيات بأن دخول الإناث فيها. إنما علم من قرينة السياق ودلالة اللفظ، ودخولهن في حالة الاقتران بما يدل على ذلك لا نزاع فيه.
وعلى هذا القول: فمريم غير داخلة في الآية. وإلى هذا الخلاف أشار في مراقي السعود بقوله:
وما شمول من للأنثى جنف ** وفي شيبه المسلمين اختلفوا

وقوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضالين}.
قال جماهير من علماء التفسير: {المغضوب عَلَيْهِم} اليهود و: {الضالين} النصارى. وقد جاء الخير بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعًا مغضوبًا عليهم جميعًا، فإن الغضب إنما خص به اليهود، وإن شاركهم النصارى فيه، لأنهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمدًا، فكان الغضب أخص صفاتهم. والنصارى جهلة لا يعرفون الحق، فكان الضلال أخص صفاتهم.
وعلى هذا فقد يبين أن: {المغضوب عَلَيْهِم} اليهود. قوله تعالى فيهم: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} [البقرة: 90] الآية- وقوله فيهم أيضًا: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] الآية- وقوله: {إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَب} [الأعراف: 152] الآية- وقد يبين أن الضالين النصارى، قوله تعالى: {وَلاَ تتبعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل} [المائدة: 77]. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

{اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَوَّلًا مَا قَالُوهُ فِي مَعْنَى الْهِدَايَةِ لُغَةً مِنْ أَنَّهَا: الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ عَلَى مَا يُوَصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنْوَاعَهَا وَمَرَاتِبَهَا فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: مَنَحَ اللهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ أَرْبَعَ هِدَايَاتٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى سَعَادَتِهِ.
أُولَاهَا: هِدَايَةُ الْوُجْدَانِ الطَّبِيعِيِّ وَالْإِلْهَامُ الْفِطْرِيُّ. وَتَكُونُ لِلْأَطْفَالِ مُنْذُ وِلَادَتِهِمْ، فَإِنَّ الطِّفْلَ بَعْدَ مَا يُولَدُ يَشْعُرُ بِأَلَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْغِذَاءِ فَيَصْرُخُ طَالِبًا لَهُ بِفِطْرَتِهِ، وَعِنْدَمَا يَصِلُ الثَّدْيُ إِلَى فِيهِ يُلْهَمُ الْتِقَامَهُ وَامْتِصَاصَهُ.
الثَّانِيَةُ: هِدَايَةُ الْحَوَّاسِ وَالْمَشَاعِرِ، وَهِيَ مُتَمِّمَة لِلْهِدَايَةِ الْأُولَى فِي الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَيُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِيهِمَا الْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ، بَلْ هُوَ فِيهِمَا أَكْمَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ حَوَاسَّ الْحَيَوَانِ وَإِلْهَامَهُ يَكْمُلَانِ لَهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ بِقَلِيلٍ، بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْمُلُ فِيهِ بِالتَّدْرِيجِ فِي زَمَنٍ غَيْرِ قَصِيرٍ، أَلَا تَرَاهُ عَقِبَ الْوِلَادَةِ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ إِدْرَاكِ الْأَصْوَاتِ وَالْمَرْئِيَّاتِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يُبْصِرُ، وَلَكِنَّهُ لِقِصَرِ نَظَرِهِ يَجْهَلُ تَحْدِيدَ الْمَسَافَاتِ، فَيَحْسَبُ الْبَعِيدَ قَرِيبًا فَيَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَيْهِ لِيَتَنَاوَلَهُ وَإِنْ كَانَ قَمَرَ السَّمَاءِ وَلَا يَزَالُ يَغْلَطُ حِسُّهُ حَتَّى فِي طَوْرِ الْكَمَالِ:
الْهِدَايَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَقْلُ، خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ لِيَعِيشَ مُجْتَمِعًا وَلَمْ يُعْطَ مِنَ الْإِلْهَامِ وَالْوِجْدَانِ مَا يَكْفِي مَعَ الْحِسِّ الظَّاهِرِ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَمَا أُعْطِيَ النَّحْلُ وَالنَّمْلُ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ مَنَحَهَا مِنَ الْإِلْهَامِ مَا يَكْفِيهَا، لِأَنْ تَعِيشَ مُجْتَمِعَةً يُؤَدِّي كُلّ وَاحِد مِنْهَا وَظِيفَةَ الْعَمَلِ لِجَمِيعِهَا، وَيُؤَدِّي الْجَمِيعُ وَظِيفَةَ الْعَمَلِ لِلْوَاحِدِ، وَبِذَلِكَ قَامَتْ حَيَاةُ أَنْوَاعِهَا كَمَا هُوَ مُشَاهَد.
أَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَاصَّةِ نَوْعِهِ أَنْ يَتَوَفَّرَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ، فَحَبَاهُ اللهُ هِدَايَةً هِيَ أَعْلَى مِنْ هِدَايَةِ الْحِسِّ وَالْإِلْهَامِ، وَهِيَ الْعَقْلُ الَّذِي يُصَحِّحُ غَلَطَ الْحَوَاسِّ وَالْمَشَاعِرِ وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَصَرَ يَرَى الْكَبِيرَ عَلَى الْبُعْدِ صَغِيرًا، وَيَرَى الْعُودَ الْمُسْتَقِيمَ فِي الْمَاءِ مُعْوَجًّا، وَالصَّفْرَاوِيَّ يَذُوقُ الْحُلْوَ مُرًّا. وَالْعَقْلُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بِفَسَادِ مِثْلِ هَذَا الْإِدْرَاكِ.
الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ: الدِّينُ، يُغَلِّطُ الْعَقْلَ فِي إِدْرَاكِهِ كَمَا تَغْلَطُ الْحَوَاسُّ، وَقَدْ يُهْمِلُ الْإِنْسَانُ اسْتِخْدَامَ حَوَاسِّهِ وَعَقْلِهِ فِيمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ الشَّخْصِيَّةُ النَّوْعِيَّةُ وَيَسْلُكُ بِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ مَسَالِكَ الضَّلَالِ، فَيَجْعَلُهَا مُسَخَّرَةً لِشَهَوَاتِهِ وَلَذَّاتِهِ حَتَّى تُورِدَهُ مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ. فَإِذَا وَقَعَتِ الْمَشَاعِرُ فِي مَزَالِقِ الزَّلَلِ، وَاسْتَرَقَّتِ الْحُظُوظُ وَالْأَهْوَاءُ الْعَقْلَ فَصَارَ يَسْتَنْبِطُ لَهَا ضُرُوبَ الْحِيَلِ، فَكَيْفَ يَتَسَنَّى لِلْإِنْسَانِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَعِيشَ سَعِيدًا؟ وَهَذِهِ الْحُظُوظُ وَالْأَهْوَاءُ لَيْسَ لَهَا حَدّ يَقِفُ الْإِنْسَانُ عِنْدَهُ وَمَا هُوَ بِعَائِشٍ وَحْدَهُ، وَكَثِيرًا مَا تَتَطَاوَلُ بِهِ إِلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَهِيَ لِهَذَا تَقْتَضِي أَنْ يَعْدُوَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَيَتَنَازَعُونَ وَيَتَدَافَعُونَ، وَيَتَجَادَلُونَ وَيَتَجَالَدُونَ، وَيَتَوَاثَبُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ حَتَّى يُفْنِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا تُغْنِيَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْهِدَايَاتُ شَيْئًا فَاحْتَاجُوا إِلَى هِدَايَةٍ تُرْشِدُهُمْ فِي ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ، إِذَا هِيَ غَلَبَتْ عَلَى عُقُولِهِمْ، وَتُبَيِّنُ لَهُمْ حُدُودَ أَعْمَالِهِمْ لِيَقِفُوا عِنْدَهَا وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَمَّا وَرَاءَهَا. ثُمَّ إِنَّ مِمَّا أُودِعَ فِي غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الشُّعُورُ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ مُتَسَلِّطَةٍ عَلَى الْأَكْوَانِ يَنْسِبُ إِلَيْهَا كُلَّ مَا لَا يَعْرِفُ لَهُ سَبَبًا. لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاهِبَةُ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا بِهِ قِوَامُ وُجُودِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ حَيَاةً وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَحْدُودَةِ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ بِتِلْكَ الْهِدَايَاتِ الثَّلَاثِ إِلَى تَحْدِيدِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ تِلْكَ السُّلْطَةِ الَّذِي خَلَقَهُ وَسَوَّاهُ، وَوَهَبَهُ هَذِهِ الْهِدَايَاتِ وَغَيْرَهَا، وَمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ؟ كَلَّا إِنَّهُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ الرَّابِعَةِ- الدِّينِ- وَقَدْ مَنَحَهُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا.